قراءة في صور سجن أبو غريب
مهما حاول بول بريمر وريكاردو سانشيز ممثلا الاحتلال الأميركي وقائداه أن يتنصلا من المسؤولية المباشرة عن عمليات التعذيب والممارسات المشينة الشاذة بحق الموقوفين في مراكز الاعتقال في العراق، ومثالها غير الحصري ما كشفت عنه الصور من سجن أبو غريب، فإنهما مسؤولان لا محالة.
”
المسؤولون الأميركيون يدافعون عن أنفسهم بالحجج نفسها التي دافع بها الرئيس التشيلي الأسبق عن نفسه حين حاول التنصل من مسؤوليته عن جرائم التعذيب والقتل والاغتصاب التي مارستها الأجهزة في عهده
”
ومهما تنصل الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش ووزير دفاعه دونالد رمسفيلد ومستشارته للأمن القومي كوندوليزا رايس، وقائد الجيش ريتشارد مايرز، ولا نستثني نائب الرئيس ديك تشيني أو وزير الخارجية كولن باول من المسؤولية، فإنهم مسؤولون والجرائم في رقابهم وإن كابروا أو عاندوا أو كذبوا.
إنهم جميعا كانوا على علم بما يجري وهم من أصدر الأوامر ورسم السياسة. ومن يشك في هذا فهو لا يعرف شيئا عن آليات عمل المؤسسة الأميركية.. من الجيش إلى الـCIA إلى مجلس الأمن القومي.
وثمة لمن يريد المزيد، دلائل ومن فم المراتب الأميركية الدنيا (على مستوى جنرال!) والتي اتهمت بالمسؤولية الفردية، أكدت أن الأوامر صدرت إليهم من مرؤوسيهم، وكان من بينها "اجعلوا حياتهم جحيما قبل التحقيق معهم".
ثم أعلن أن ثمة تقارير من الصليب الأحمر والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان -أميركية وغير أميركية فضلا عن تقارير الجنرال أنطونيو تاغوبا- أرسلت رسميا إلى المستويات العليا لقوات التحالف في العراق وللإدارة الأميركية والحكومة البريطانية.
وكان ذلك منذ عدة أشهر، وبعضها يقرب من السنة، الأمر الذي لا يسمح لمسؤول أن يقول لا أعرف إلا بعد نشر الصور، أو أن يغسل يديه من المسؤولية إن لم تكن المباشرة فالأدبية التي تستدعي الاستقالة في الأقل.
وأضف أن عمليات التعذيب الجسدي والنفسي والجنسي كانت تلتقط بالصوت والصورة، وبشكل ممنهج وأولا بأول في سجن أبو غريب، وترسل إلى البنتاغون الذي تجمعت لديه كما أعلن رسميا آلاف الصور، مما لا يترك مجالا للشك أننا إزاء سياسة طبقت بصورة منتظمة ومنهجية على عدة شهور (طوال مرحلة الاحتلال)، فكيف يقال إنها أعمال فردية لا تمثل المؤسسة (الجيش والإدارة).
وكيف يمكن أن يتنصل الرئيس الأميركي نفسه من المسؤولية وقد اعتبرت الإدارة الأميركية الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسوفيتش متهما بارتكاب جرائم حرب، وقدم لمحكمة دولية انطلاقا من مسؤوليته كرئيس للدولة وقائد عام للقوات المسلحة التي ارتكبت المجازر.. وهذا ما طبقوه على صدام حسين.
والأعجب أنهم يدافعون عن أنفسهم بالحجج نفسها التي دافع فيها الرئيس التشيلي الأسبق عن نفسه حين حاول التنصل من مسؤوليته عن جرائم التعذيب والقتل والاغتصاب التي مارستها الأجهزة في عهده.
وبكلمة.. إن ما جرى ويجري في السجون والمعتقلات التي تحت الإشراف الأميركي من أفغانستان إلى العراق، مرورا بغوانتانامو ومراكز التحقيق "المستعارة" في بلدان أخرى.. سياسة مقررة من أعلى المستويات، وهي جزء من طبيعة الاحتلال وإستراتيجية الحروب الاستباقية، وعقلية التطرف الصهيونية داخل الإدارة الأميركية. إنها جزء لا يتجزأ من عملية وقف المقاومة والممانعة بل من عملية الإخضاع والاستتباع.
”
لدى البنتاغون آلاف أخرى من صور التعذيب قرر عدم المضي بنشرها لأن النتائج على الرأي العام الأميركي والغربي جاءت أشد مما كان متوقعا
”
أما من جهة أخرى فإن الكشف عن الصور بالمئات والآلاف، وبما احتوته من مشاهد مهينة مروعة يثير بدوره تساؤلا عن الهدف المتوخى من وراء ذلك، لا سيما وقد ثبت أن مصدر الصور لم يكن عملا فرديا استرق وهرب، وإنما من مؤسسة البنتاغون نفسها.
وقد جاء في تقرير الجنرال تاغوبا أن التصوير كان يتم من خلال أجهزة فيديو ثابتة كتلك التي تستعمل في أقنية الفضاء والسينما.
وكشف وزير الدفاع الأميركي دونالد رمسفيلد نفسه أن لدى البنتاغون آلافا أخرى من الصور قرر عدم المضي بنشرها لأن النتائج على الرأي العام الأميركي والغربي جاءت أشد مما توقعوا. ولم تقبل حجتهم بأنها أعمال فردية أو أن الصور التقطت من خلال أجهزة معقدة مخفية (أين المتآمرون؟).
وفي هذا الصدد يجب أن يؤكد أن الصور التي التقطت في سجن أبو غريب ليست صورا لمقاومين أو معارضين أو أنصارهم، ولم تكن بهدف انتزاع الاعترافات. وهذا ما كشف عنه العشرات ممن تعرفوا على صورهم وكان قد أفرج عنهم، مؤكدين أنهم لم يعرفوا لماذا اعتقلوا، ولم تكن لهم أية علاقة بنشاط معاد لقوات الاحتلال، أي أنهم أناس عاديون اعتقلوا ليعذبوا ويهانوا ويصوروا.
أما الذين قامت عليهم دلائل ولو أولية تتعلق بالمقاومة فهؤلاء "حفلتهم" في غير سجن أبو غريب، والمشرفون عليهم غير تلك الفتاة الأميركية التي ظهرت في الصور.
ولهذا إذا قيل إن ما جرى في سجن أبو غريب كان يجري مثله وأكثر منه في السجون العربية أو في النظام السابق، فإن التشبيه غير وارد، لأن فظائع التعذيب والإهانة كانت دائما موجهة لمقاومين أو معارضين أو أقاربهم بقصد ابتزازهم، وهذا هو المشترك عالميا.
أما في الموضوع العراقي في سجن أبو غريب فالأمر مختلف والهدف مختلف.. إنه مقصود لذاته وأريد تصويره ليوزع على العراقيين والعرب والمسلمين لإرعابهم وإهانتهم وإشعارهم بالدونية.
وهذا يفسر إخراج الصور كأن مصورها محترف، فلو كان القصد التحقيق وانتزاع الاعترافات فهذا يتم أساسا بصورة فردية ولا يكون من المهم التقاط الصور لأن الهدف هو الوصول إلى نتائج وبأسرع ما يمكن.
من هنا، يمكن القول إننا إزاء سياسة مدروسة على أعلى مستوى، فالجيش الأميركي جيش منضبط، وقد اشتهر هو والجيش البريطاني بانضباطيتهما، ويقومان على آليات من المراقبة والمتابعة في تنفيذ الأوامر قل نظيرها.
أما الذين يريدون أن يحصروا المسؤولية بفعل بضعة أفراد، أو تفسير نشر الصور بأنه تم عن طريق التهريب والسبق الإعلامي، فقد نسوا ما قالوه عن المؤسسة الأميركية وقراراتها التي تؤخذ بعد دراسات خلفية معمقة. وهذا ما يؤكد أن الظاهرة (نشر الصور كما محتوياتها) من فعل المؤسسة التي يحترم فاعليتها أعداؤها قبل المنبهرين بها.
وبكلمة.. إننا أمام "حرب نفسية" تستهدف الشعوب العربية والإسلامية من أجل كسر روح المقاومة فيها ما دامت الرسالة التي وجهت إلى الحكام من خلال إطاحة صدام حسين والتشهير بصوره عند اعتقاله لم تصل الشعب العراقي الذي هب مقاوما وممانعا.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الشعوب العربية والإسلامية، وما مثل الشعب الفلسطيني ببعيد عن أحد.
طبعا خبراء الحرب النفسية سيكتشفون أن هذه الأساليب لا تؤثر في جماهير العرب والمسلمين، بل تترك آثارا عاصفة في الاتجاه المعاكس.
”
سقط وعد مجلس الحكم للشعب العراقي بالديمقراطية وحقوق الإنسان على الأرض لا سيما بعدما اقتصر موقفه على استنكار ما حدث دون اتخاذ موقف ملموس يؤكد حرصه على الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترامه للشعب العراقي
”
تبقى إشكالية أخرى متعلقة بمجلس الحكم ومدى مسؤوليته عما جرى مع أبناء شعبه الذين هم من الناس العاديين وليس من خصومه السياسيين (حتى لو كانوا من خصومه، فما حدث يدخل في جرائم الحرب).
صحيح أن مجلس الحكم اتهم منذ اليوم الأول أنه "شكلي وصوري"، لكن أعضاءه رفضوا ذلك رفضا حاسما، ومنهم من تحدث -في مجالسه الخاصة- عن "بطولات" مع بول بريمر وفرض التراجعات عليه، الأمر الذي يزيد من مسؤوليته عما جرى في السجون والمعتقلات مادام صاحب كلمة مهابة ومسموعة.
وإذا قيل إنه لم يكن يعرف من قبل أن تنشر الصور فثمة مشكلة أشد، فالشاعر قال:
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ومع ذلك، لنفترض أن أعضاء المجلس لم يعرفوا بما كان يجري فماذا سيفعلون بعد أن عرفوا. وبالمناسبة إن الصور التي التقطت في عمليات اقتحام البيوت وسوق المعتقلين وكيفية معاملتهم تكفي "لتعليق الجرس".
وكان هنالك كثير من الشهادات المعلنة كذلك، فمشكلتهم الآن تعدت ما أخذ عليهم من مشاركة في مجلس الحكم وتعاون مع بريمر لتمس في الصميم موقفهم من الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو الموقف الوحيد الذي برروا به تعاونهم مع "الشيطان" في مؤتمر لندن، وبعده في المشاركة بمجلس الحكم.
فوعدهم للشعب العراقي بالديمقراطية وحقوق الإنسان سقط على الأرض لا سيما بعدما اقتصر موقفهم على استنكار ما حدث ومن دون اتخاذ موقف ملموس يؤكد حرصهم على الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترامهم للشعب العراقي من خلال تقديم الاستقالة والإصرار على رحيل قوات الاحتلال فورا، وبلا قيد أو شرط. علما أن هذا الموقف: الاستقالة والمطالبة برحيل قوات الاحتلال توجّب عليهم مع ما حدث ويحدث في الفلوجة والنجف وكربلاء