المعضلة اللبنانية.. نظرة عابرة
تندرج مأساة لبنان في أنه غني بتجاربه، لكنه الأفقر على صعيد الاستفادة من هذه التجارب. عندما سألت مرة أثناء دراستي العسكرية العليا مع القوات الجوية الأميركية أحد قادة المعهد عن سبب التركيز على دراسة الحرب الأهلية الأميركية 1861-1865، رغم أنها الأكثر دموية في تاريخ الحروب الأهلية (600 ألف قتيل).. كان جوابه كالتالي "يجب أن لا يغفل ضميرنا عن هذه المرحلة الدموية من تاريخنا، فالحرب الاهلية كانت مأساوية، لكن.. انظر الآن إلى ماذا أدت.. ها نحن موحَّدون، وأصبحنا الدولة الأعظم في التاريخ البشري. لكن.. تأمل لو حصل الانفصال في تلك الحرب، لكانت أميركا الشمالية أميركات متعددة. دراسة الحرب الأهلية ضروريّة، كي تبقى عبرة للأجيال القادمة، فيعرفوا البديل عن الاتحاد".
في أحد كتب العلامة محمد حسين فضل الله، شدد العلامة على الحرب اللبنانية فقال بما معناه "يجب أن تبقى ذكرى الحرب سيفاً مسلطا فوق رؤوسنا، نتعظ بها كلما دعت الحاجة".
”
يرتبط مستوى الاستقرار الداخلي في لبنان مباشرة بالوضع الإقليمي، فقد كانت الناصرية والمد العروبي أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، سببا مباشرا للاستقرار أو عدمه. وكانت العلاقة مع سوريا والتعامل مع إسرائيل أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد سببا آخر
”
ويتساءل المرء عن سبب ما حل بلبنان: هل هو تركيبة غريبة وُجدت هكذا وعمداً كي تبقى متنفسا لمشاكل المنطقة عند التأزم الإقليمي، تنفجر في لبنان؟. هل هو صنيعة المسيحيين بحدوده الحالية؟ أم أن الوضعين الدولي والإقليمي ساهما في هذه التركيبة؟ يقول المفكر والفيلسوف والسياسي كمال جنبلاط في هذا الإطار ما معناه "أخطأ الموارنة مرتين في تاريخهم.. المرة الأولى عندما كان عليهم أن يطالبوا بلبنان الصغير، فطالبوا بلبنان الكبير. المرة الثانية خلال الحرب الأهلية الأخيرة، عندما كان عليهم أن يطالبوا بلبنان الكبير، فطالبوا بلبنان الصغير".
غريب أمر لبنان.. الحل المقترح فيه يصبح مشروع مشكلة مستقبلية، ورغم كونه الأكثر عصرية في المنطقة فإنه يستحيل على أبنائه تعديل النصوص القانونية حتى ولو كانت المصلحة العليا تقتضي ذلك. في لبنان، هناك خلاف على تحديد المصلحة العليا. يقول المفكر السياسي الفرنسي جوليان فرويند في كتابه عن روح السياسة ما يلي "تقوم السياسة على مفهومي تحديد العدو والصديق، وتمارس السياسة بالاعتماد على بعدين يتمثلان بالدبلوماسية والقوة. فالدبلوماسية تتطلب ملكة الفكر والعقل، أما القوة فبحاجة إلى الوسائل المادية". في لبنان لكل فريق عدوه.. من هنا كان الاختلاف الجذري في الخطاب السياسي، فتصبح مقاومة العدو الإسرائيلي إسلامية بحتة، لأن أجندات الفرقاء اللبنانيين متناقضة.
ويرتبط مستوى الاستقرار الداخلي في لبنان مباشرة بالوضع الإقليمي، فقد كانت الناصرية والمد العروبي أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، سببا مباشرا للاستقرار أو عدمه. وكانت العلاقة مع سوريا والتعامل مع إسرائيل أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد سببا آخر. ارتبط مستوى الزعامة في الشارع المسيحي خلال الفترتين بمدى العداء للناصرية ولسوريا، فكلما كان العداء أكثر حِدة للاثنين، كلما كانت شعبية الزعيم المسيحي أكبر (في الشارع المسيحي بالطبع). شكل الموارنة خلال فترة الانحطاط الفكري العربي خشبة الخلاص، فكانوا أول من أعاد للغة العربية قيمتها. كذلك الأمر.. شكل المسيحيون في لبنان الباب الرئيسي لانفتاح العرب على العالم الغربي المسيحي.
كانت الحرب اللبنانية لمدة 17 عاما، لأن النظرة إلى لبنان كانت متناقضة بين الفرقاء اللبنانيين. فالفلسطيني كان عدو المسيحي وصديق المسلم. والسبب أن كل فريق من اللبنانيين له نظرته الخاصة للصراع، فنعود إلى التحديد الذي ذكرناه آنفا نقلا عن جوليان فرويند. كل من مات في لبنان أثناء الحرب فهو شهيد، الأمر الذي يعني أن الكل رابح في هذه الحرب خاصة على الصعيد المعنوي. لكن نظرة عقلانية إلى الوضع تتطلب منا إعادة دراسة الوضع ومعاقبة الذات. إن أي شأن في لبنان قد يشكل مادة خلاف وصراع وتجاذب، فتعيين المختار قد يصبح شأنا إقليميا مرتبطا بالصراع العربي الإسرائيلي.
”
أيُّ نظام يريده اللبنانيون؟ هل هو النظام الطائفي أم العلماني الليبرالي الديمقراطي؟ وفي الحالتين يبقى السؤال عن المرجعية في حال الخِلاف: هل هو الدستور أم الأشخاص وما ينتج عن اتفاقهم من تسويات عادة تكون قصيرة النظر وعلى حساب المستقبل؟
”
يحتار المحللون في كيفية فهم الطريقة التي يُحكم فيها لبنان، فيقول البعض إن الأزمة ليست أزمة حكم بل أزمة نظام، فماذا عنها؟
أي نظام يريده اللبنانيون؟ هل هو النظام الطائفي أم العلماني أم الليبرالي الديمقراطي؟ وفي الحالتين يبقى السؤال عن المرجعية في حال الخِلاف: هل هو الدستور أم الأشخاص وما ينتج عن اتفاقهم من تسويات عادة تكون قصيرة النظر وعلى حساب المستقبل؟
ففي تجربة فريدة من نوعها خرج لبنان بعد الاستقلال وفي جعبته دستور قلما تمت العودة إليه عند الأزمات (أزمات الحكم). أضيف إلى هذا الدستور ميثاق عرف بميثاق الـ43. لعب الميثاق دور النظام (Regime) الذي رعى العلاقة بين اللبنانيين، وشكل في مرحلة ما قبل الحرب الوسيلة الناجعة لنزع فتائل الخلافات بين الشرائح اللبنانية، مع عدم إغفال بعض المطبات خلال تلك المرحلة. ويمكن القول إنه كان المهرب أو المخرج (Defusing System) لإيجاد التسويات بدل تطبيق الدستور.
والجدير ذكره هنا أن الدستور والميثاق كانا على اتفاق مع اللبنانيين، أي أنهما كانا النتيجة الطبيعية لواقع وفاقيٍّ قائم. لكن تبدّل الظروف الإقليمية واندلاع الحرب اللبنانية أديا إلى نسف المعادلة الوفاقية من جذورها، فالنظام (ميثاق 43) الذي كان كفيلاً بتفكيك الألغام أصبح عاجزاً عن مواكبة التحولات، كما أصبحت قواعده لا تصلح للمرحلة الجديدة كأدوات حل. يُضاف إلى هذا غياب واضعي هذا الميثاق والذين كانوا يشكلون المرجعيات الأساسية في طوائفهم في عملية اتخاذ القرار على الصعيدين الوطني والإقليمي.
وبعد توحيد لبنان وإنهاء الحرب الدموية، أخرجت المقاومة إسرائيل من جنوب لبنان بالقوة عام 2000. وبدل أن تكون المناسبة سببا للتوحد والاحتفال بين اللبنانيين، أصبحت هي أيضا مصدر خلاف وفراق. فهناك فريق من اللبنانيين يرى أن الحرب انتهت، وتحرير مزارع شبعا وجب أن يكون عبر الطرق الدبلوماسية. وفريق آخر يرى أن التحرير أتى بالقوة، ومن الضروري أن يستكمل بالقوة، فإسرائيل لا تفهم إلا هذه اللغة.
بعد عملية التحرير كانت حادثة 11 سبتمبر/ أيلول، والحرب على أفغانستان. تلا هذه الحرب الاستعداد الأميركي لضرب العراق. وفي ظل الخوف من انعكاسات الحرب ضد بغداد على المنطقة بدأ الوضع اللبناني الداخلي يتأزم، وهذا طبيعي لأننا قلنا في سياق المقال إن لبنان هو نقطة تنفيس الاحتقان. وظهر أيضا خلاف بين المعارضة والموالاة اتخذ طابعا صداميا في أغلب الأحيان.
في ظل هذا الوضع بدأت تظهر على الساحة اللبنانية طروحات عديدة تتعلق كلها بالقوانين الانتخابية وبإمكانية تعديل النظام السياسي في لبنان. فاقترح لبنان دائرة واحدة، كما سُربت فكرة إنشاء مجلس للشيوخ قد تكون رئاسته من نصيب الطائفة الدرزية الكريمة. هل يبدو أن المقصود من الطروحات هو حل إشكالية النظام اللبناني مرة ولكل المرات؟ حتى الآن كلا. وقد ظهر هذا الأمر جليّا في تصريحات العديد من الزعماء اللبنانيين ومن كل الطوائف إذ منهم من قال إن الهدف هو تهميش فئة أساسية من المجتمع اللبناني، في حين قال الوزير جنبلاط إنه ليس مع هذا الطرح.
”
بعد توحيد لبنان وإنهاء الحرب الدموية، أخرجت المقاومة إسرائيل من جنوب لبنان بالقوة عام 2000. وبدل أن تكون المناسبة سببا للتوحد والاحتفال بين اللبنانيين، أصبحت هي أيضا مصدر خلاف وفراق
”
هل تبدو فكرة طرح إنشاء مجلس للشيوخ وكأنها الحل للمعضلة اللبنانية؟ يقول الكاتب دون هوروويتز في كتابه "مشاكل في اليوتوبيا" إن مهمة النظام السياسي الأساسية هي أنه الوسيلة الوحيدة التي من خلالها تتم عملية الضبط للمجتمع regulative، فهو (أي النظام) الذي يوزع الحصص بين الفرقاء المكونين للمجتمع ويحدد كيفية الوصول إلى السلطة، وهو الذي يشكل وسيلة الحل لكل المشاكل في المجتمع منعا للانفجار. كذلك الأمر يقول البعض الآخر إن النظام السياسي يجب أن يكون مرنا وقابلا للتعديل إذا دعت الحاجة، وذلك من دون أن يكون ألعوبة. ولا يجب أن يكون قاسيا إلى درجة يعجز فيها عن إيجاد الحلول المناسبة للمجتمع، فتأتي الكوارث والانفجارات نتيجة لذلك.
من هنا نتساءل، هل سيأتي إنشاء مجلس الشيوخ بالحل الناجع للمعضلة اللبنانية؟ وهل إلغاء الطائفية السياسية هو بدوره أيضا سيكمل الصورة الباهرة المستقبلية التي ينتظرها أولادنا؟ بالطبع كلا، لأن هذه القرارات هي مسار طويل لا يختصر بتعديل دستوري سطحي وبشحطة قلم. من هنا تبدو كل هذه الطروحات وكأنها تكتيكية ولأهداف تكتيكية، وبعيدة كل البعد عن التخطيط الإستراتيجي الإيجابي لمستقبل لبنان.
في أميركا مثلا أتت فكرة طرح إنشاء مجلسين كحل لمشكلة أساسية كادت تؤدي في وقت من الأوقات إلى فرط عقد الاتحاد. وقد اقترح إنشاء مجلس للشيوخ آنذاك كتطمين للذين كانوا يخافون الطغيان العددي. بمعنى آخر، كان الخوف من أن تتحكم الولايات الكبيرة بالولايات الصغيرة (حسب عدد النواب). في هذا الإطار اقترحت فكرة مجلسي النواب والشيوخ، فيعتمد مجلس النواب على البُعد العددي للولاية (عدد نواب الولاية حسب عدد سكانها)، في حين يُوزّع مجلس الشيوخ بالتساوي بين الولايات (شيخان لكل ولاية بغض النظر عن عدد سكانها)، وبعد ذلك وزعت الأدوار والمسؤوليات بين المجلسين. دام هذا النظام السياسي أكثر من قرنين دون مشاكل تذكر، وحتى دون إجراء تعديلات كثيرة في الدستور (عددها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة).
يعتمد اللبنانيون في قراراتهم على عامل التسرع، وعلى البقاء على المستوى الأفقي للأمور، ودون الغوص في أعماق المشكلة لإيجاد الحل الناجع الذي يعتمد وينطلق من المعطيات الميدانية. وصلت أوروبا مثلا إلى هذه الدرجة من الاندماج بعد أن مرت بمراحل عديدة دامت أكثر من نصف قرن (الخمسينات، اتفاقية الصلب والحديد). ثم راحت تبني المرحلة اللاحقة للاتحاد على مدى ومستوى نجاح المرحلة التي سبقتها ( Spill Over)، كما أنها أنشأت المؤسسات الضرورية لتحضير المجتمع للاندماج، وأجرت العديد من الاستفتاءات. في لبنان.. يريد المسؤولون الاندماج بقرار فوقي، في مجتمع لم يتعرف على بعضه كما يجب بعد عملية توحيد الدولة عام 1990-1991. كما أنهم أهملوا فكرة ومشروع الخروج من تروما (Trauma) الحرب اللبنانية.
فالمعروف أن مشروع الخروج من التروما أو الصدمة يمر بمراحل أربع هي: مرحلة رفض الصدمة، ومرحلة لعن الصدمة، ومرحلة قبول الصدمة، ومرحلة الوعد والتخطيط لتجاوز الصدمة والخروج منها. في لبنان، وصلت الدولة والمسؤولون إلى المرحلة الرابعة أفقيا (بشكل سطحي) عبر طرح هذه المشاريع، لكن دون أن تحضن وتأخذ معها المجتمع الذي بقي متخلفا عن اللحاق بالركب، لأنه فعليا لم يزل في المرحلة الأولى، مرحلة رفض الصدمة. وكانت النتيجة هوة عميقة بين المجتمع والدولة.
يكفي في هذا الإطار أن نزور الجامعات -التي من المفروض أن تشكل وتحضر الجيل المستقبلي- لنعرف بالضبط المستوى الخطير الذي وصل إليه المجتمع اللبناني. فخنادق الفصل والانفصال لا تزال عميقة بين هذا الجيل الصاعد. والخطير في الأمر أن هذا الجيل غير مستعد للحوار في ظل دولة ليس لديها مخطط لوضعه على نفس موجة الآخر للتعرّف عليه وفهمه في خصوصيته للقبول به شريكا في مرحلة لاحقة.
”
وجب على كل الفرقاء العمل على خلق الأرضية المشتركة للحوار، والاتفاق على أي لبنان نريد. والتفاعل بين الأقلية والأكثرية هو أساس قيام الحضارات وبقائها
”
في لبنان لكل أقليةٍ سياستها الخارجية التي تتجاوز حدود الوطن الصغير، ويمكننا القول إنها سياسة عالمية، وهنا مكمن الخطورة لأن هذه الأقليات سوف تدفع دائما ثمنا باهظا إذا تعارضت سياستها ومواقفها مع الأكثرية المحيطة. في هذا الإطار، شكل المسيحيون سابقا المدخل الأساسي للبنان والعرب باتجاه الغرب. وحاليا، تبدلت الأوضاع وتغيرت المعطيات، فالعولمة التي كان المسيحيون السباقين فيها، ساهمت في انفتاح كل الشرق على كل الغرب ودون وسيط معين. فالرئيس الحريري مثلا يقابل رئيس الدولة الفرنسية "الأم الحنون"، دون المرور بالوسيط المسيحي.
باختصار.. الهواجس كثيرة والثقة مفقودة بين الفرقاء وعلى كل المستويات. من هنا وجب على كل الفرقاء العمل على خلق الأرضية المشتركة للحوار، والاتفاق على أي لبنان نريد، وننشئ النظام الذي حددنا وظيفته في سياق المقال. ويحضرني الآن ما كتبه كمال جنبلاط حول هذا الموضوع في كتاب "من أجل المستقبل"، يقول "وجب توفير المثل الصالح الصادر عن أربعة أو خمسة قادة للدولة يظهرون في تفكيرهم وخاصة في تصرفهم الخاص والعام بأنهم يؤثرون الإخلاص والمصلحة العامة فوق كل شيء.. هذا التعاكس والتفاعل بين الأقلية والأكثرية هو أساس قيام الحضارات وبقائها وازدهار الدول واستمرار الأمم في مجالات التفوق والحياة".