محاكمة البشير والخروج من التيه الثقافي السياسي
نشرت مقالاً في يوليو/تموز 2008 على إثر الاتهامات الموجهة للرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير من قبل المحكمة الجنائية الدولية بشأن أحداث دارفور وكل ما يقال حولها، وقد طالبت فيه بضرورة العناية بتلك المسألة وحسمها وفق "الخيارات الثقافية والسياسية الواجبة".
غير أن الخارطة الثقافية العربية إزاء تلك المسألة الخطيرة بدءاً من تاريخ التلويح بالقرار وانتهاء بالتعاطي معها بعد صدور مذكرة الاعتقال، تجعلنا نقرر بأننا في أمس الحاجة إلى إعادة اكتشاف مثل تلك الخيارات الواجبة حيال القضايا الكبيرة التي تهدد الأمن القومي العربي أو الأهداف أو القيم المحورية، وهو ما يعني أننا مطالبون بتلمس الأرضية التي تسير عليها "نظرية التغيير" في العالم العربي.
"
هل يعقل أن نشهد اليوم تنادياً إلى تدخل بعض القوى الأجنبية في هذا البلد العربي وغدا في بلد عربي آخر لأن فئة من المثقفين العرب رأوا أن ذلك سائغ من أجل تحقيق مشاريع الإصلاح العربية المعطلة؟!
"
المثقفون العرب على ثلاث جبهات
ولكي يكون التحليل مختصراً، فإنه يمكن القول بأن عموم المثقفين العرب قد انقسموا إلى ثلاث جبهات:
1- جبهة التغيير الخارجي: وتضم تلك أخلاطاً من المثقفين يختلفون في تاريخهم الأيديولوجي وخلفياتهم الحزبية أو السياسية، غير أنهم يجتمعون حول مبادئ يسمونها "الليبرالية الجديدة"، ومن ضمنها مبدأ "الاستقواء بالخارج"، سواء كان عبر المنظمات الدولية أو الهيئات الأممية بل وحتى التدخل العسكري المباشر.
ويصرّح بعض الليبراليين الجدد بتبنيهم لذلك المبدأ ويعلنون ابتهاجهم بنتائجه كما في العراق والصومال، ما يجعل الكثيرين ينظرون إلى أولئك المثقفين كطابور خامس في عالمنا العربي في مرحلة حرجة، لا سيما لبعض الدول العربية المهددة بشبح التقسيم وتهديد سلامة أراضيها وسيادتها الوطنية، الأمر الذي يؤذن بحدوث فوضى خلاقة أو غير خلاّقة في محيطنا العربي.
فهل يعقل أن نشهد اليوم تنادياً إلى تدخل بعض القوى الأجنبية في هذا البلد العربي وغدا في بلد عربي آخر لأن "فئة" من المثقفين العرب رأوا أن ذلك "سائغ" من أجل تحقيق مشاريع الإصلاح العربية المعطلة؟!!
2- جبهة التغيير الداخلي: وأحسب أن المثقفين الذين يمثلونها هم القاعدة الكبرى في الخارطة الثقافية، ورغم وجود اختلافات فيما بينهم إزاء بعض المسائل من حيث التشخيص والعلاج، فإنهم يؤمنون بأن الإصلاح العربي يجب أن يكون في مبتدئه وخبره شأنا عربيا خالصا لا تكدره أي مكدرات أجنبية.
فهم يعتقدون بأنه لا توجد أمة حية أو مجتمع ناهض اعتمد على غيره في تحقيق الإصلاح أو محاربة الفساد، وعلى هذا فهم يؤكدون بخطاباتهم ومشاريعهم الإصلاحية على أن ما يحدث داخل البلاد العربية هو شأن شعوبها فقط، من خلال الحراك السياسي والثقافي وبالطرق السلمية، مع تشديدهم على إعطاء هذا الحراك ما يحتاجه من الفضاءات والآليات التي تتيح له أن يطور وظائفه وأداءه في مجال محاربة الفساد بكافة أشكاله المالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق أو توسيع المشاركة السياسية الشعبية الحقيقية وفق الخيار الديمقراطي الذي يرتضيه الشعب العربي داخل إطاره الحضاري العربي الإسلامي.
"
توجد أصوات عربية تؤيد محاكمة الرئيس السوداني في المحكمة الجنائية، ومع أنه لا يمكن القول بأنها نسبة ممثلة للتوجهات العربية الشعبية، فإنها تعطي مؤشرات على سخونة الأوضاع العربية وارتفاع منسوب السخط الشعبي
"
3- جبهة التغيير "الداخجي" (المتردد): وتتضمن عدداً من المثقفين العرب الذين لم يحسموا خيارهم بعد، فهم يرون بأم أعينهم تردي الأوضاع الديمقراطية وشيوع الاستبداد والفساد "المقنن" في العالم العربي، دون أن يبصروا مؤشرات على وجود إرادة حقيقية للإصلاح، ما يجعلهم "مترددين" بين القبول بهذا الوضع المأساوي والقبول بالتدخل الأجنبي السافر بما يحمله من مخاطر كبيرة، لا سيما أنهم يؤمنون بأن الدول الكبرى لا تنفق دولاراً واحداً من أجل سواد عيوننا أو وفاءً لمقتضيات نشر الديمقراطية، خاصة أن دعم تلك الدول للأنظمة الاستبدادية "الصديقة" في "دول العالم الثالث" بات أمراً مكشوفاً للجميع.
ويتسم خطاب هذه الجبهة بالتوتر الشديد والقلق المحبط عن العمل والبناء، إلا أن أولئك المثقفين لا يعدمون القدرة على التأثير على شريحة لا يستهان بها من الرأي العام العربي.
ولقد هالني جدا ما رأيته في بعض البرامج الإعلامية من وجود أصوات عربية تؤيد محاكمة الرئيس السوداني في المحكمة الدولية. ومع أنه لا يمكن القول بأنها نسبة ممثلة للتوجهات العربية الشعبية، فإنها تعطي مؤشرات لا يسوغ تجاهلها من قبل الأنظمة الرسمية العربية، فهي مؤشر على سخونة الأوضاع العربية وارتفاع منسوب السخط الشعبي.
الخروج من التيه الثقافي السياسي
أعتقد بأن الثقافة العربية لم تتعاط كما ينبغي مع طروحات الجبهات الثلاث إزاء مثل تلك القضية الخطرة، وهو ما جعلها تبدو كما لو كانت قضية تتعلق بمسألة جزئية في مشروعنا الإصلاحي كترتيبات الانتخابات وإجراءات عمل مؤسسات المجتمع المدني، ما يعكس حالة التيه التي تعاني منها الثقافة والسياسة العربية المعاصرة.
وهذه حقيقة يجب أن تدفعنا إلى بلورة المقومات والمعالم والشرائط التي نصنع منها "الخيارات الثقافية والسياسية الواجبة" بخصوص القضايا الكبيرة التي تتعلق بالمسائل الكلية في المشروع الإصلاحي العربي، ومن أهم تلك المسائل ما يمس الأمن القطري والقومي أو تمكين الغرباء أو الأعداء من دس أنوفهم القذرة في شؤوننا الداخلية، والتاريخ حافل بمئات المواقف الدنيئة.
ميثاق عربي ضد التدخلات الأجنبية
اعتمادًا على ما سبق، أذهب إلى مطالبة المثقفين على اختلاف أطيافهم الفكرية والسياسية ببلورة ميثاق عربي يتمحور حول رفض التدخلات الأجنبية في أقطارهم العربية بأي شكل كانت، فالتدخل الأجنبي مرفوض وغير مبرر مهما كانت الظروف والملابسات التي تعيشها تلك الأقطار العربية، كما أن "التسامح" في استخدام أوراق أو أدوات أو آليات "الضغوط الخارجية" لتحقيق بعض المكاسب الإصلاحية، يعني بالضرورة القضاء على "القدرات الذاتية" و"الميكانزمات الطبيعية" اللازمة "لدمقرطة الدكتاتورية" و"تفكيك الفساد المقنن" بالطرق السلمية المشروعة، باستخدام أدوات الهندسة الاجتماعية بما في ذلك التشخيص الثقافي الحضاري، تماماً كما تفعل المجتمعات الأكثر ذكاءً التي استطاعت بعد جهود تراكمية "استنبات الديمقراطية" و"تدجين الاستبداد".
ومن هنا يتوجب على الفئة المثقفة توعية الشعوب العربية بخطورة السير في هذا المنحدر الخطر، حيث يتوهم البعض أن الغربيين يفرشون بتلك المحاكمات وما يشابهها مسارب النهضة العربية بورود العدالة ورياحين الحرية، وربما يعبر بعض العرب عن يأسهم المطلق من كافة المشاريع العربية النهضوية، وفي هذه الحالة أو تلك ارتكاس نهضوي ويأس حضاري مميت.
وكل هذا يوجب على المثقفين أن يقوموا بدورهم التاريخي من أجل الحيلولة دون وقوعه، ومن جهة أخرى يتوجب على الأنظمة العربية أن تفيد جيداً من دروس تلك الأحداث، وأن تكون على مستوى المسؤولية في المضي قدما على طريق الإصلاح الحقيقي، بعيدا عن "الشعاراتية الفارغة" التي لم تعد تنطلي على أحد.
"
يجب إشعار الجامعة العربية بأن الكتلة الثقافية العربية ذات التوجهات الوطنية والعروبية تقف ضد أي تدخل أجنبي سافر، حتى لو تدثر بإهاب القانون الدولي وتحدث باسم الإنسانية، فالإنسانية أجلّ من أن تستخدم سياسياً بشكل بشع كما نراه الآن
"
كما ننادي الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى بضرورة اتخاذ موقف أكثر صلابة، ويجب إشعار الجامعة بأن الكتلة الثقافية العربية ذات التوجهات الوطنية والعروبية تقف ضد أي تدخل أجنبي سافر، حتى لو تدثر بإهاب القانون الدولي وتحدث باسم الإنسانية، فالإنسانية أجلّ من أن تستخدم سياسياً بشكل بشع كما نراه الآن، وبازدواجية مقيتة باتت مكشوفة لكل أحد.
فمن يعلق جرس البدء بإيصال صوتنا العربي، والتحرك على كافة الأصعدة لتدوين الميثاق العربي في هذا الشأن والوفاء باستحقاقاته القانونية والسياسية والثقافية والإعلامية لوقف هذه المهازل، في حراك ثقافي عربي ناضج.. حراك ذاتي لا تحركه سوى المصلحة العربية العليا وفق أولوياتها الحقيقية والنأي بالعالم العربي عن موارد الفوضى ومسالك التشتت والفرقة؟
نرجو أن يقنع ذلك الحراك المخلص الأنظمة العربية بضرورة الاقتراب من شعوبها وتلمس سبل الإصلاح الحقيقي ومكافحة الفساد بكافة ألوانه، وإن بشكل تدريجي