من أكون ؟
كانت من المتصلات ببرنامج تليفزيوني يجيب عن تساؤلات المشاهدين الدينية .. في الثالثة والثلاثين .. صوتها يحمل الكثير من الشجن والدموع ، ويوحي بأن صاحبته تعاني الكثير رغم صغر سنها ... وكانت المفاجأة حين تكلمت ووضحت أسباب حزنها المكين ...
إنها امرأة .. حديثاً ... أما في الماضي ، وبالتحديد منذ عشر سنوات وما قبلها ... فقد كانوا يعتبرونها رجلاً ...
أجل .. لقد كانت ذكراً وأنثى في آن واحد .. هكذا ولدت ورأتها أمها ... ولجهلها تركتها ... ظنت أن الغالب عليها الرجولة فيما بعد ... لم تعرضها على طبيب ، ولم تستشر ذوي الخبرة .. بل تركتها للأيام تفعل بها ما تشاء ... وتلك آفة الجهل ..
وكبرت الطفلة ودخلت مدرسة البنين ، إلى أن صارت في المرحلة الإعدادية ... وهنا دق ناقوس الخطر ... لاحظت الطفلة أن هناك أشياء في هيئتها مختلفة عن زملائها البنين ، ورفضت الذهاب إلى المدرسة ... وتذمرت الأسرة ... أجل ، لم يقتنعوا بشكواها وهم مقتنعون أنها ذكر لا عيب فيها ، وأصرت على عدم الذهاب للمدرسة وهنا تدخل خالها وطلب من والديها أن يعرضها على طبيب مختص، وبعد محاولات مستميتة معهما ذهبا بها إلى الطبيب الذي اثبت بعد فحوصات كثيرة أنها أنثى في الغالب ، وستكون أنثى كاملة بعد انتهاءه من أجراء عملية مضمونة النتائج لها ..
ورفضت الأسرة إجراء العملية ... وتركوا الطبيب وتجاهلوا رأي الطب وأخذوا في التنكيل بها ( لتسترجل ) ... ورغم بكائها واستماتتها في إقناعهم إلا أنهم لم يعيروها أدنى اهتمام ..
ولم تجد بُداً من ترك الأسرة وهي في الثامنة عشر بعد أن سرقت من خزينة أبيها مبلغاً ضخماً يكفي لإجراء العملية .. وأبلغت خالها فوافقها على ما فعلته ، وذهب معها إلى الطبيب ووقف بجوارها حتى أنتهم العملية وصارت فعلاً أنثى كاملة ...
ومكثت في المستشفى شهرين دون أن يفكر أهلها في زيارتها .. وأعلنوا أنهم متبرئون منها لأنها خنثى ..
وبعد انتهاء علاجها بالمستشفى خرجت إلى شقة خالها الذي لم يكن قد تزوج ... لكنه كان على وشك الزواج .. فإلى أين تذهب ؟
وحاولت أن تقنع أبويها بحاجتها لهما نفسياً بكل شيء .. وأنها لا ذنب لها فيما حدث لها ...
مشيناها خطى كُتبت علينا .... ومن كُتبت عليه خُطىً مشاها
لكنهم طردوها بعد أن سخروا منها وقالوا لها : لا مكان لك بيننا لا في حياتك ولا بعد موتك .. ليس لك عندنا مدفن .. فأنت لست رجلاً ولستْ امرأة .. لا نعرف لك جنساً ..
وذهبت للطبيب الذي يعالجها شاكية باكية .. فتطوع بالذهاب إلى أسرتها ليفهمهم الأمر لكنهم أصموا آذانهم قائلين : إنها جلبت لهم العار ولا يستطيعون بحال أن تعيش بينهم ..
وعرض عليها الطبيب أن تعمل في المستشفى في التمريض بعد تدريب بسيط .. لكنّ مواجهة العاملين بالمستشفى كانت قاسية عليها ولم يتقبلوها بينهم لأنهم يعرفون حقيقتها ... وأخذوا يسخرون منها ويتغامزون عليها .. فاضطرت إلى ترك المستشفى رغم أنها كانت تقيم فيها في سكن الممرضات ....
وهي الآن حائرة ثائرة .. اين تعيش ؟ كل الناس يسخرون منها ويعاملونها معاملة لا تستطيع تحملها .. يعاملون الكلب أفضل من معاملتهم لها .. ماذا تفعل ؟ وكيف تعيش ؟
وسألها المذيع : ماذا كنت تفعلين لو رجع بك الزمان إلى الوراء عشر سنوات ؟ فقالت كنت قد انتحرت !!
رباه ... لماذا نصر على أن نحيا ظالمين أيها البشر ؟
لماذا ننسى أن أفضل ما يميز الإنسان على سائر الكائنات فضائله وأخلاقه وحبه لمن حوله ؟
لماذا لا نقتدي برسولنا صلى الله عليه وسلم الذي دعانا إلى محاسن الأخلاق فقال : " أدناكم مني يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً " .
لماذا لا نتخيل أنفسنا مكان أولئك المعذبين حتى نرحمهم من عذاباتهم ونخفف عنهم آلامهم ؟
إن الكثير من أهل النعم قد عرفوا اللذات كلها وأصبحت أثقل على نفوسهم من الحديث المعاد ، فلم يبق ما يعزيهم عنها إلا لذة واحدة هي لذة الإحسان .
فأحسن أيها الإنسان إلى البائسين في هذه الحياة لتجد بدعائهم لك سرور النفس وحبورها ..
وليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مصاب فتبتسم سروراً ببكائك واغتباطاً بدموعك ، لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء أنك إنسان !
إن اليد التي تصون الدموع أفضل من اليد التي تريق الدماء ، والتي تشرح الصدور أشرف من التي تبقر البطون ، فالمحسن أفضل من القائد وأشرف من المجاهد ، وكم بين من يحي الميت ومن يميت الحي ؟!!
أبيها الرجل السعيد كن رحيماً ، أشعر قلبك الرحمة ، ليكن قلبك الرحمة بعينها .
أيها السعداء أحسنوا إلى البائسين والفقراء وامسحوا دموع الأشقياء وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء
______