مفهوم الحرية في الإسلام
عرض/إبراهيم غرايبة
يعرض الكتاب مفاهيم الحرية في الفكر الإسلامي التراثي، ويبحث موقف الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة المسلمين من قضايا الحرية والرق والسخرة والسجن، ويقارن بين المفاهيم الإسلامية للحرية والرؤية الفلسفية اليونانية التي اشتغل بها المسلمون فترة طويلة واستوعبها في العلوم والأفكار الإسلامية.
مشكلة الحرية
يعود المؤلف في معالجة مفهوم الحرية إلى عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحاضر وفي النطاق القانوني، ويلاحظ أن مفهوم الحرية هو أهم محرك تاريخي عرفه العالم، وأن "الحرية" استطاعت أن تعتق نفسها من إطار قيود التعريفات، وأن تتطور إلى مصطلح ليس له وجود خارجي يمكن تحديده إلا ما يعطيه لها العقل الإنساني.
-الكتاب: مفهوم الحرية في الإسلام "دراسات في مشكلات المصطلح وأبعاده في التراث العربي الإسلامي"
-المؤلف: فرانز روزنتال
-ترجمة: رضوان السيد، معن زيادة
-الصفحات:184
-الناشر: دار المدار الإسلامي، بيروت
-الطبعة: الأولى/2007
ويجد المؤلف أن للحرية مستويين، الأول: هو المستوى الفلسفي الوجودي الذي يضيف إليه الإسلام والمجتمعات الدينية الأخرى بعدا كلاميا.
والثاني: هو المستوى الاجتماعي، ويقيم المسلمون تلقائيا فصلا قاطعا بين هذين المستويين، فمفهوم حرية الإرادة وحرية الاختيار يعبر عنه بمصطلح يختلف عن ذاك الذي يستخدم للتعبير عن الحرية الاجتماعية.
ولكن المؤلف يهتم بمفهوم الحرية الذي يعني تسليم الفرد للقانون والنظام الإلهي، لأنه ينطبق على الوضع السائد في الإسلام.
ويقول إن الإسلام والمسيحية يشتركان في أمر واحد بالنسبة للحرية، فكلاهما على حد سواء يقف ضد البحث اللامشروع عن حرية متوهمة، وكما يقول غارديه "إن الحرية في الإسلام هي حرية مربوطة بالخضوع".
ويجد المؤلف أن أقدم تعريفات الحرية في الشرق الإسلامي لم تصدر عن دوائر إسلامية، ولم يعبر عنها في اللغة العربية، بل وردت في الأعمال السريانية، على أساس أن الحرية هي القوة غير المحددة للطبائع العاقلة التي تتعلق بالحواس والإدراك العقلي.
ويورد المؤلف نصا مقتبسا عن أبي حيان التوحيدي، الذي استفتى مسكوية عن معاني الخير والاختيار، فقال "إن الإنسان تصدر عنه حركات وأفعال كثيرة لا تشبه بعضها بعضا، فيظهر منه فعل من حيث إنه جسم طبيعي، يناسب به الجماد، وبعض الأفعال تتناسب بفعل البهائم، ويظهر من فعل حيث يكون ناطقا فيناسب بذلك الفعل الملائكة، ولكل فعل له دواع ولها أسباب، وتعرض لها عوائق كثيرة، وموانع مختلفة، بعضها طبيعية، وبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية.
أما بالنسبة إلى حقيقة الخير والاختيار، فيقول إن الفعل -مع اختلاف أنواعه وتباين جهاته- يحتاج إلى أربعة أشياء، الفاعل الذي يظهر منه، والمادة التي يحصل فيها، والغرض الذي ينساق إليه، وأخيرا الصورة التي تتقدم عند الفاعل ويروم بالفعل اتخاذها في المادة، وربما تكون الصورة هي الفعل بعينه، والتي تحتاج إلى الآلة والزمان والبنية الصحيحة، ولكن ليس لأي فعل.
"
الاختيار له مكانة رفيعة في ميزان المعايير عند الفلاسفة، فالحرية كما يقول القدماء هي "هبة الله" ولكن الإنسان بعيد عن تلك الحرية الشاملة، فأي نظرية في الاختيار ترفض قبول ضرب من الحرية الإنسانية في التصرف لم تكن لتلقى قبولا واسعا
"
ثم يصل الفيلسوف إلى القول إن الإنسان لا يفكر ولا يجيل رأيه في الشيء الممتنع، إنما يفكر ويجيل رأيه في الشيء الممكن، التي تخص بالفعل الإنساني، وإذا كان الفعل مما ينظر فيه على طريق الإضافة أن يكون طاعة لمن تجب طاعته أو معونة لمن تجب معونته، أو غير ذلك من وجوه الإضافات الواجبة ثم امتنع من الفعل، فهو ملوم غير معذور، لأنه قادر ومتمكن، ولأجل ذلك تلحقه الندامة، من نفسه، والعقوبة من غيره، أو العيب والذم، وهذه الجهة التي تخص الإنسان من جهات الفعل المتعلقة بالفكر وإجالة الرأي المسمى بالاختيار، هي ثمرة العقل ونتيجته، ولولا هذه الجهة لما كان لوجود العقل فائدة، بل يصير وجوده عبثا ولغوا، ونحن نتيقن أن العقل أجل الموجودات، أشرف ما من الله تعالى به ووهبه للإنسان.
من هنا نجد أن الاختيار له مكانة رفيعة في ميزان المعايير عند الفلاسفة، فالحرية كما يقول القدماء هي "هبة الله" ولكن الإنسان بعيد عن تلك الحرية الشاملة، فأي نظرية في الاختيار ترفض قبول ضرب من الحرية الإنسانية في التصرف لم تكن لتلقى قبولا واسعا.
ويتتبع المؤلف مفهوم الحرية ومصطلحاتها في المصادر الإسلامية، فتعريفات "الحر" "الحرية" عند المؤلفين المسلمين، بدأت بتعريف الحر بأنه ضد الرقيق، فالرجل الحر يمتلك كبرياء وأخلاقا تبعثه على طلب الأخلاق الحميدة، والعبد بخلاف ذلك، فتفهم الحرية على أنها خاصية أخلاقية تتلاقى أيضا مع مضامين كلمة "حر" كما عُرفت قبل الإسلام.
أما الرازي فيقدم تعريفا فلسفيا للحرية، حرية النفس، ويقع ضمن التقليد الأخلاقي الذي يربط حرية النفس بـ"sophrosyne eleutheritos"، أما التعريفات الصوفية للحرية فترد في رسالة القشيري التي تهدف إلى إعطاء عرض متكامل لموقف المتصوفة من مفهوم الحرية.
"فالحرية هي الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار، وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار".
ويلاحظ المؤلف أن الفقهاء المسلمين قبلوا بالعبودية كمؤسسة، وأقصى ما وصل إليه الفقهاء في مواقفهم من العبودية كان أن وقفوا من الأمر الواقع موقف عدم الارتياح لعدم قيامه على أسس أخلاقية ثابتة، خاصة أن الرقيق محرومون في مواطن متعددة، مثل عدم أهليتهم للمناصب العليا وانتقاص حقهم في ممارسة واجباتهم المدنية، والطريف في الأمر أنه في بعض حالات العقوبات كان الأمر ينقلب لصالحهم.
فقد أعفوا من بعض الفروض الدينية كالقيام بأداء شعائر الحج، ولم يكن هناك اعتراض على المبدأ العام القائل بأن العبودية ليست قدرا طبيعيا على بعض الناس، رغم أن العبودية وجدت نتيجة لتطورات تاريخية معينة ونتيجة للآثام البشرية، ورغم استمرار وجودها يتمسك الفقهاء المسلمون بأن الأصل في الناس الحرية.
وما يتناقض مع مفهوم الحرية هو السجن، وتبدو مؤسسة السجن مألوفة في القرآن الكريم، وقد كانت السجون معروفة في الجزيرة العربية أيام النبي كما كانت موجودة بكثرة في الجزيرة قبل الإسلام، هذا الوضع انعكس في تصرف النبي، كما انعكس في النظرية القانونية الإسلامية.
فقد احتجز الرسول عليه السلام أحدهم عندما ساورته الشكوك في أمره، وقد اشترى عمر بن الخطاب بيتا وحوله إلى سجن، وقد شكل هذا فيما يبدو سابقة قانونية.
"
مهما يكن من أمر الممارسات الشعبية في بعض الحقب وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي فإن النظرية المعترف بها زكانت تحترم باعتبارها حقا أساسيا للمسلم الحر، كانت حرية العمل وحرية الكسب وحرية سعي المرء حسب هواه
"
وتبدو أدلة كافية في التدليل على مشروعية السجن، رغم أن العقوبات الست التي تحددها الشريعة حدودا للجرائم الرئيسية لا يدخل فيها السجن، فيمكن القول إن الشريعة الإسلامية لم تكن تميل في الأساس إلى حرمان الأفراد من حريتهم، وقد كان التحدي الأكبر للحرية الفردية، فقد نتج عن واقعة أن الحاكم بيده السلطة الفعلية في سجن ألأفراد حسب إرادته عندما يرى ذلك ضروريا.
وقد عرف المجتمع الإسلامي "السخرة"، وكانت على وجه العموم ممقوتة، وهي لم توجد في أي سند فقهي أو قانوني، فقد رأى ابن خلدون أن السخرة تعيق الاقتصاد أولا ثم تدمره ومعه المجتمع السياسي، وهذا ما لاحظه في شمال غرب أفريقيا، وهو ناشئ عن ملاحظاته الشخصية التي أثبتت له أن الحكام الذين عمل معهم كانوا يميلون ميلا واضحا إلى تسخير الناس، وكذلك في مصر عندما كان المماليك يحملون الناس على ذلك.
ولقد كان العمل القسري على أي حال ممقوتا في الإسلام وقليلا ما يلجأ إليه، إن حضارة كالحضارة الإسلامية نشأت حول التجارة والحياة المدنية لم يكن يمكن المساس فيها بالتوازن الاقتصادي، وكان أمر كهذا يؤدي عواقب وخيمة.
ومهما يكن من أمر الممارسات الشعبية في بعض الحقب وفي بعض أجزاء العالم الإسلامي فإن النظرية المعترف بها التي كانت تحترم باعتبارها حقا أساسيا للمسلم الحر كانت حرية العمل وحرية الكسب وحرية سعي المرء حسب هواه.
فلسفة الحرية
يعتقد المؤلف أن الأفكار والنظريات اليونانية حول الحرية على المستوى الفلسفي والأخلاقي والسياسي والميتافيزيقي صارت جزءا من النسيج العام للفكر الإسلامي، وكانت الأخلاق أحد فروع الفلسفة التي ارتبطت بالحرية.
فالحرية خاصية وموقف للفرد، ولا ترتبط بالظروف السياسية والاجتماعية، كما أنها لا تتجزأ، فالإنسان لا يمكن أن يكون نصف حر ونصف عبد في شخصه الأخلاقي.
والحرية الأخلاقية تعني رغبة الإنسان في أن يكون طيبا، وضبط الإنسان بنفسه هو شرط ضروري لسيطرته على غيره، إن الحرية تعطي الإنسان العاقل القدرة على تحرير نفسه من قيود بيئته الطبيعية وعاداته الرتيبة، وبذلك تجعل منه إنسانا حكيما.
"
الإنسان الحر يمثل كل الصفات النبيلة، في حين يمثل العبد كل ما هو شرير ودنيء في الطبيعة البشرية، وهذا المعنى يتلاءم والاستخدام العربي القديم لكلمة "حر"، فأخلاقيات الإنسان هي التي تحدد كونه حرا أو عبدا
"
وسئل من أحق الناس أن يؤتمن على تدبير المدينة؟ فقيل "من كان في تدبير نفسه حسن المذهب، فالحر النفس هو سيد لناموس الطبيعة، ومن شروط العالم والمفكر الحقيقي أن يولد حرا، وقد جعل أبقراط في وصيته الحرية بالمولد لطالب الطب، أما إذا نظرنا إلى الحرية من الناحية السلبية فهي التحرر من عوامل الإرغام ومن أعباء الحياة اليومية، أما العالم رشيد الدين بن خليفة فيرى أن "الحرية هي الحياة الخيرة"، ويعرف الحرية بالسلب على أنها التحرر من الشر، ومن العوامل التي تعيق الإنسان عن بلوغ الهدف الحقيقي لإنسانيته، إن تجنب الشرور التي ترتكبها الكائنات البشرية عادة هو الحرية الحقيقية، "فعسير على الإنسان أن يكون حرا وهو ينصاع للأفعال القبيحة الجارية مجرى العادة".
ويقول رشيد الدين بن خليفة "الرضا هو باب الحرية" ويرى شاعر عربي أن عبودية الرغبات هي عبودية أبدية، وتعرف التوراة الحرية باعتبارها تقوم على رفض الشهوات، ويعتبر المتكلمون أن كلمة "الدنيا" مصطلح لكل الرغبات الضارة، فيعشقها الجهول ويأنف منها الحر، فالحرية باعتبارها تعني التحرر من الرغبات الدنيا هي أحد فروع فضيلة العفة، والتحرر من الشهوات هو أحد جوانب الكمال الإنساني، إنه يرتفع بالإنسان إلى درجة كمال إنسانيته.
والغاية القصوى للفلسفة -وهي السعادة- يمكن بلوغها عندما تتحرر النفس بكمالها، فالحرية تقوم مقام الخصائص التي تميز الإنسان الأخلاقي، فالإنسان الحر يمثل كل الصفات النبيلة، في حين يمثل العبد كل ما هو شرير ودنيء في الطبيعة البشرية، وهذا المعنى يتلاءم والاستخدام العربي القديم لكلمة "حر"، فأخلاقيات الإنسان هي التي تحدد كونه حرا أو عبدا، ولا توسط بينهما.
وقد وصل الفكر السياسي المتعلق بالحرية إلى المسلمين بالطريقة نفسها التي وصلت بها كثير من الأعمال السياسية لأفلاطون وأرسطو التي ترجمت إلى العربية، فقد فسر ابن رشد جمهورية أفلاطون بأن على كل إنسان أن يقتنع بأنه حر، وأن شكل الدولة التي تمثل الحرية هو الديمقراطية، ويبقى هنا على كل حال احتمال تحول الزيادة في الحرية لغير صالحها.
فالإنسان المنحط يستطيع أن يدعي لنفسه الحرية المطلقة، ويعطي نفسه الحق في التخلي أو في رفض كل القيود الأخلاقية، وبالمثل فإن دولة الحرية يمكن أن تفقد شخصيتها.
ويتبنى الفارابي الفكرة القائلة بأن الديمقراطية هي مدينة الحرية، ويرى أن أشكال الحكومات الموجودة في هذا العالم غير كاملة، إنها نتيجة حاجة الإنسان للتنظيم الاجتماعي لضمان بقائه.
من هذه المدن الجماعية التي يتمتع أفرادها بالحرية التامة، وهي مؤسسة المساواة حيث يكون زعيما عليهم وإنهم على استعداد لتسليم السلطة لأولئك الذين يعدونهم بمزيد من الحرية.
فهي مدينة تشكل بيئة صالحة يظهر فيها الأفاضل والفلاسفة والخطباء والشعراء بسرعة، وتبدو أقرب المدن إلى المدينة الكاملة، التي تبدو أكثرها استعداد للخير أو للشر.
ميتافيزيقا الحرية
ثمة فكرة قديمة قبل الإسلام بأن الجسد الإنساني هو سجن النفس، وأن العالم سجن للإنسان، وأن الموت يعني التحرر من ذلك السجن وهذا ما يرغب فيه كل المؤمنين الحقيقيين.
"
يرى ابن عربي أن الإنسان الحر هو الذي لا يستعبده امتلاك أو رتبة، إنه يحكم الأشياء كلها ولا تحكمه، وبالنسبة له فإن الإنسان هو عبد لله فقط لا لأحد أو شيء غيره أيا كان ومهما كان، وعلى هذا فالحرية الحقيقية تكمن في العبودية الحقيقية لله
"
ويقول المؤلف إن الفكرة هذه لقيت قبولا واسعا عند المسلمين الأتقياء، وهنا توضح العلاقة مع الفلسفة الإغريقية، والذين تحدثوا عن الجسد الإنساني على أنه سجن، وقد وجدت الفكرة القائلة إن الحياة سجن أو قبر مكانا لها في مجموعات الأحاديث المنسوبة إلى النبي، "الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر"، وطبعا تبنى الصوفية هذه الفكرة بحماس.
وفي نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي يختفي كل من السيد والعبد باختفاء التمايز بينهما اختفاء تاما، ويرى أن الإنسان الحر هو الذي لا يستعبده امتلاك أو رتبة، إنه يحكم الأشياء كلها ولا تحكمه، وبالنسبة لابن عربي فإن الإنسان هو عبد لله فقط لا لأحد أو شيء غيره أيا كان ومهما كان، وعلى هذا فالحرية الحقيقية تكمن في العبودية الحقيقية لله.
ومع ذلك فإن العبودية لا توضع عادة مقابل الحرية بل تقابل عادة بالربوبية، فالمصطلحات الصوفية مثل الإمساك والابتعاد عن الأمور الدنيوية واجتناب صحبة الناس وتفضيل العزلة لا تهدف إلى تمجيد الحرية الفردية، إذ إن التحرر من الأمور الدنيوية عند الصوفية يهدف إلى الاستعداد للقبول التام بالعبودية لله