أوروبا وقضايا الشرق الأوسط
كثير من المفكرين والمحللين السياسيين كانوا يقفون موقف الحائرين والمنتقدين للسلبية التي تطبع السياسة الأوروبية في قضايا الشرق الأوسط، وخاصة حينما تتعقد هذه المشاكل وتقف بجزء من العالم على حافة الهاوية.. وقد ازدادت الحيرة منذ أن وصلت قضية فلسطين والاحتلال الإسرائيلي إلى ما وصلت إليه من تدمير لمبادئ الإنسان ولميثاق حقوق الإنسان الدولي، ولما تغنت به أوروبا طويلا منذ الحرب العالمية الثانية من حق تقرير المصير واحترام سيادة الدول وكرامة الشعوب.
”
ساهمت أوروبا بين الحربين العالميتين في تأصيل الاستعمار وتمزيق الدول والشعوب، وإعطاء الوعود لكل النزعات العدوانية، مما مكن للنازية الهتلرية أن تجد مجالها واسعا -مبدئيا وعمليا- في أوروبا، وتبعتها الفاشية الإيطالية
”
وقد ساهمت أوروبا بين الحربين العالميتين في تأصيل الاستعمار وتمزيق الدول والشعوب، وإعطاء الوعود لكل النزعات العدوانية، مما مكن للنازية الهتلرية أن تجد مجالها واسعا -مبدئيا وعمليا- في أوروبا، وتبعتها الفاشية الإيطالية.
وكانت الحرب الثانية وما أفرزته من نظريات ومبادئ وشعارات يبشر بتغيير جذري للأوضاع، نظريا في أوروبا، وعمليا في بلاد المستعمرات. وقد أنجز التاريخ ما وعد في كثير من الصور وفي كثير من المناطق، وتحقق استقلال الشعوب في آسيا وأفريقيا وجزء من العالم العربي.
غير أن نكبة فلسطين سنة 1948 والنكبات التي أفرزتها في الشرق العربي كانت المثال الذي شذ عن القاعدة، أوجدتها إلى جانب الصهيونية العالمية بريطانيا العظمى، وتبنتها منذ نهاية حرب الولايات المتحدة الأميركية على عهد الرئيس ترومان، ومنذ تبني أميركا للوجود الإسرائيلي بكل مكونات التبني المادية والمعنوية والدبلوماسية.
ومنذ هذا التبني نفضت دول أوروبا يدها من قضية فلسطين، ووقفت مواقف سلبية إلا في بعض المواقف في الأمم المتحدة يوم كان لهذه المنظمة شأن، وكان يمكنها أن تعمل وفق ميثاقها، وقبل أن تصبح آلة مسخرة في يد الولايات المتحدة حتى في تعيين الأمناء العامين وكبار الموظفين والضغط على عملية التصويت.
”
كانت الدول الأوروبية المعادية للحرب تؤكد تنكرها للنظام المخلوع في العراق، ولكنها كانت ترى إمكانية تصفية هذا النظام بطرق سلمية، على أن تبقى دولة العراق وشعبها سالمين من ويلات الحرب
”
الوضعية في الشرق الأوسط وصلت إلى حافة الهاوية، خاصة منذ ولاية الجمهوريين الحكم في بداية سنة 2001. فقد احتلت أميركا أفغانستان بدعوى أن الحاكمين فيها ومنظمة القاعدة لها يد في أحداث سبتمبر/ أيلول في نيويورك وواشنطن ثم بدأت تتحرش بالعراق بدعوى امتلاك النظام المنهار لأسلحة الدمار الشامل.
ورغم تدخل مجلس الأمن عن طريق الدول الكبرى الأعضاء (فرنسا وروسيا وألمانيا ثم الصين) لتحويل مجرى الأحداث إلى حلول سلمية بتكوين لجنة علمية للبحث عن أسلحة الدمار الشامل، وذلك لتجنب حرب قد تكون بداية حروب أخرى كانت أميركا تهدد بها بوضع بعض دول المنطقة في مجموعة دول الشر وتهديدها بما كانت تهدد به العراق، ورغم رفض مجلس الأمن منح ورقة بيضاء لأميركا وبريطانيا لإعلان الحرب على العراق، فإن الدولتين أقدمتا دون إذن الأمم المتحدة على حرب لا ضرورة لها إلا أن يكون تحقيق مصالح ذاتية لأميركا بالذات، وهي السيطرة على كل مناطق البترول من السعودية حتى العراق.
وكانت الدول الأوروبية المعادية للحرب تؤكد تنكرها للنظام المخلوع في العراق، ولكنها كانت ترى إمكانية تصفية هذا النظام بطرق سلمية، على أن تبقى دولة العراق وشعبها سالمين من ويلات الحرب، وعلى أن تبقى المنطقة جميعها مجالا للتعاون السياسي والاقتصادي والتجاري لكل الدول -بما فيها دول الاتحاد الأوروبي- فلا تصبح المنطقة تحت الإمبراطورية الأميركية الكبرى.
”
فتح احتلال العراق بعد تدمير مدنه الرئيسية على مصراعيه لإرهاب خطير، ظهرت بوادره في العراق ثم السعودية والدار البيضاء
”
فشلت أوروبا وحاربت أميركا وإنجلترا العراق الذي انهزم كما كان منتظرا.. ولكن هزيمة العراق فتحت عدة جبهات في المشرق العربي:
أولها: مستقبل العراق كدولة يجب أن تعود إلى النظام الديمقراطي لتدبير شؤونها بنفسها، وتستثمر ثرواتها البترولية لصالح شعبها، وحل مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية.
ثانيها: أقفلت الأبواب في وجه معظم الدول الأوروبية لتشارك في تجارة المنطقة التي تعج بالقواعد العسكرية الأميركية، وخاصة العراق الذي دمرت كل بنياته التحتية والفوقية، وأصبح في حاجة إلى تعاون دولي في إطار مصلحة كل دولة من دوله لإعادة الإعمار والاستفادة من النفط وعوائده.
ثالثها: فتح احتلال العراق بعد تدمير مدنه الرئيسية على مصراعيه لإرهاب خطير ظهرت بوادره في العراق ثم السعودية والدار البيضاء. فأمر الإرهاب ظاهرة تدميرية ووحش كاسر إذا انطلق لا يمكن لأحد أن يتوقع متى وأين يقف. وإذا كانت إسرائيل هي السبب الرئيسي في الأعمال الخطيرة التي قام بها الإرهاب حتى في نيويورك -11 سبتمبر/أيلول- فإنه الآن يضيف إلى سببه الرئيسي (احتلال إسرائيل لفلسطين) أسبابا رئيسية كبرى هي احتلال أميركا وبريطانيا للعراق بعد تدميره لتطويق الشرق العربي بالقواعد الأميركية، وتجول الجنود الأميركيين في الدول المحتلة، وإعلان أميركا أنها هي التي ستطارد الإرهابيين في الرياض وستعلمهم معنى العدالة الأميركية.
كل هذا يحدث والاتحاد الأوروبي واقع تحت صدمة الحرب التي أعلنت رغما عنه، واقتصر فيها المنتصرون الذين يهددون الدول الكبرى -فرنسا مثلا- بالويل، لأنها وقفت مع الأمم المتحدة لصالح السلام وضد الخيار العسكري.
”
الإرهاب ظاهرة تدميرية ووحش كاسر إذا انطلق لا يمكن لأحد أن يتوقع متى وأين يقف، وإذا كانت إسرائيل هي السبب في تفجيرات سبتمبر فإن احتلال العراق يعطي سببا آخر لتفاقم الظاهرة
”
غير أن أوروبا بدأت تفيق من الصدمة مع المشروع الذي بدأ التفكير فيه قبل حرب العراق وهو "خارطة الطريق" للبحث عن حل سلمي لقضية فلسطين على أساس إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل في حدود سنة 2005. وقد تبنت المشروع دولتان ومجموعتان هما أميركا (بالأساس) وروسيا، والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وبدأ عرض المشروع الذي قبله الفلسطينيون دون أي تحفظ، ولم تقبله إسرائيل -بل أعلنت استحالة قبوله- إلا بتعديلات جوهرية، وربما كان ملخص التعديلات ينسف جوهر المشروع. فإسرائيل لا تقبل دولة فلسطينية (لأنها تهدد إسرائيل بالتدمير..؟) ولذلك فإنها يمكن أن تقبل دويلة في غزة وأريحا. ولأنها ترفض أن تكون دولة لا تختار هي رئيسها، وبذلك يسهل إبعاد (أبو عمار) ياسر عرفات لأنها تريدها دولة منزوعة السلاح، ولأنها تريدها دويلة تحت نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري.
أوروبا تحركت بعد أميركا. بدأ باول وزير خارجية الولايات المتحدة جولة في الشرق الأوسط وبعض الدول الأوروبية (روسيا وألمانيا) لتحفيز الدول التي زارها والمهتمة بقضايا الشرق الأوسط عموما وقضيتي فلسطين والعراق خصوصا، تحفيزها على قبول "خارطة الطريق" والتعامل معها لبداية رحلة جديدة نحو السلام، ولم يكد يعود إلى واشنطن حتى قام خافيير سولانا مندوب الاتحاد الأوروبي في القضايا الخارجية والأمن بجولة بداية من فلسطين المحتلة ثم سوريا ولبنان وإسرائيل ليبحث ما تثيره خارطة الطريق من قضايا، والتأكيد أن الاتحاد الأوروبي يعتمدها أساسا للبحث عن السلام في فلسطين.
هدفان لزيارة سولانا:
أولهما: إبراز دور أوروبا في الحل السلمي لمشكل الشرق الأوسط. فرغم أن الخطة تحمل توقيع الأربعة، فإن أميركا كانت تتحرك وحدها وكأنها هي صاحبة المشروع، ثم إن إسرائيل التي تقف من الخارطة موقف الرافض، لا تخاطب إلا أميركا في كل ما يتعلق باحتلالها وعدوانها على الأرض والشعب الفلسطينيين. فأوروبا والأمم المتحدة عندها خارج نطاق المحادثات، ودالتها على أميركا أكثر من دالتها على أوروبا، ولذلك تستطيع أن تقول لواشنطن: لا.. فتذعن هذه. وتعرف أن أوروبا لا تذعن إذا قالت لها: لا.. لهذا فزيارة سولانا للسلطة الفلسطينية أولا ولدول عربية أخرى، يراد منها ضمان قبول الخطة كما تفهمها أوروبا بشموليتها، لا بالتفسير الأميركي الذي يجعل مبدأ الخطة الأساس هو "تفكيك أجهزة الإرهاب الفلسطيني".
الهدف الثاني: هو تحرك أوروبا في موضوع كان اتحادها أحد موقعيه، وبذلك تستعيد أوروبا مكانة فقدتها في قضية حرب العراق.
”
العالم الجديد لا يمكن أن يخطو نحو تحقيق السلام دون أوروبا، وقد آمن الاتحاد الأوروبي بالسلام الذي هدمته أميركا بسياستها الموغلة في الحروب
”
وهذه خطوة مهمة لأوروبا بقطع النظر عن نجاح الخارطة أو فشلها، كما يريد لها
شارون ذلك معتمدا على مقابلته المنتظرة مع الرئيس بوش. خطوة أوروبا مهمة لأنها تعيد الاعتبار إلى الأمم المتحدة التي عالجت قضية فلسطين منذ 55 سنة، ثم تعيد لأوروبا الموحدة مكانتها، وبذلك تتنفس الصعداء -إذا ما نجحت في وضع الخارطة على الطريق- من الهيمنة الأميركية على كل ما يتعلق بهذه المنطقة، تريد من ذلك أن تكون هذه المنطقة ولاية جديدة (الولاية الواحدة والخمسين) من الولايات المتحدة الأميركية.
وفرنسا -من بين دول الاتحاد- تتبنى المواقف الأوروبية في قضايا الشرق الأوسط وتتزعمها، وهي بذلك تغامر في وجه التهديد الذي يلحقها من أميركا بحرمانها من ثمار حرب العراق. وربما لن تترك للشركات الفرنسية بالذات مجالا للإسهام في إعمار العراق، وربما وقفت في وجه مشاريعها مع عراق المستقبل إن لم تقف في وجه تجارتها مع منطقة البترول جميعها وإن لم تعرقل تزويدها بنفط العراق والمنطقة.
أميركا لا تخفي عداوتها لفرنسا بالذات أكثر من بقية دول معارضة الحرب، فزيارة باول الأخيرة شملت موسكو وبرلين لمحاولة تصفية الخلاف معهما ولم تشمل باريس.
وفي المقابل يعلن الرئيس شيراك ووزير خارجيته أن كل قضايا الشرق الأوسط وخاصة قضية العراق يجب أن تعود تصفيتها وإعادة إعمارها ورفع الحصار الاقتصادي عنها إلى الأمم المتحدة لا إلى دولة معينة من دولها.
وهذا الكلام موجه باسم فرنسا وأوروبا إلى الولايات المتحدة ليقول للرئيس بوش: نحن هنا.. كما كان يقولها الجنرال "ديغول" لمعاصريه من رؤساء الولايات المتحدة الأميركية. أما أجهزة الإعلام الأميركية فإنها تكاد تضم فرنسا إلى مجموعة "دول الشر".
ولكن فرنسا وهي تدافع عن مصالحها، تؤكد في كل ساعة وكل دقيقة أن مشاكل الشرق العربي يجب أن تعود إلى الأمم المتحدة، فهي وحدها -ووحدها فقط- المعنية بالسلام الآن ولمستقبل السلام في البلاد التي تجرعت الحرب دون إذنها وفي البلاد التي تعاني ويلات العدوان منذ سنة. ففرنسا تعرف كيف تحتمي بالأمم المتحدة وهي تقف في وجه الولايات المتحدة.
”
إن الحضارة الحديثة في العالم ليست من نتاج أميركا ولا هي ملك لها وحدها، أوروبا بنت العصور الحديثة وحضارتها، وهي مسؤولة عن المحافظة على هذه الحضارة
”
هل تنجح أوروبا في استعادة هذه المكانة؟ يبدو أنها عازمة على ذلك، وإذا كانت لا ترغب أن يصل خلافها مع أميركا -وقد استحر بسبب حرب العراق- إلى طريق مسدود، فهي كذلك تتشبث بالعودة بكل مشاكل الشرق الأوسط إلى الأمم المتحدة بما فيها قضية العراق وفلسطين (والأمم المتحدة أحد الأقطاب الأربعة في إبداع خارطة الطريق) وبذلك تطرق باب الأمم المتحدة من جديد كلما حاولت أميركا إقفالها.
ويمكن أن نؤكد في ختام هذا العرض أن العالم الجديد لا يمكن أن يخطو نحو تحقيق السلام دون أوروبا. وقد آمن الاتحاد الأوروبي بالسلام الذي هدمته أميركا بسياستها الموغلة في الحروب. ثم إن الحضارة الحديثة في العالم ليست من نتاج أميركا ولا هي ملك لها وحدها. أوروبا بنت العصور الحديثة وحضارتها، وهي مسؤولة عن المحافظة على هذه الحضارة حتى لا تدمرها الحروب الظالمة والطاغية والعابثة بمصير العالم. فلن تزدهر إلا في ظل سلام، لقد آبت أوروبا إلى رشدها وهي تسنده متخلية عن أسباب الحروب وخوض غمارها.
_______________