الأزمة السودانية.. من رفض التدويل إلى الأحضان الأميركية
فشلت الحكومات الوطنية المتعاقبة على السودان في إيجاد حل ناجز للحرب الأهلية الطاحنة في جنوب البلاد، التي تعود جذورها إلى العام 1955 أي قبيل استقلال السودان ببضعة أشهر. وقد كانت هذه الحرب -التي أزهقت حتى الآن أرواح ما يزيد على المليونين من البشر وأدت لتشريد نحو أربعة ملايين آخرين- سببا رئيسيا في تعطيل مسيرة التنمية، في هذا البلد الغني بالثروات الكامنة في باطن الأرض والبادية على سطحها أيضا.
وقاد هذا الفشل إلى تدويل قضية جنوب السودان، بعدما ظل قادته وخاصة الشماليين يرفضون أي تدخل أجنبي. لكن التطورات المتسارعة في العالم وخاصة في الربع الأخير من القرن المنصرم لم تترك لأي دولة خيار الاستفراد في التعامل مع الأزمات التي تبدو في ظاهرها داخلية، ولكنها تتقاطع في عدد من أوجهها مع اهتمامات كونية كقضايا حقوق الإنسان على سبيل المثال.
جون دانفورث
وقد استغلت الولايات المتحدة هذا المثال لتضع قدمها في السودان، وجاء التدخل قويا منذ البداية عندما عينت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش السيناتور السابق جون دانفورث مبعوثا خاصا إلى السودان في نهايات العام 2001، وقام بأول زيارة له إلى الخرطوم في نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث التقى مع كل أطراف الصراع تقريبا.
اتفاقية جبال النوبة
استهل دانفورث جهوده في السودان بمحاولة حل الصراع في منطقة جبال النوبة، حيث أخفقت العديد من الاتفاقات السابقة في وقف نزف الدم والدمار الذي أدى إلى تشريد ومقتل مئات الآلاف من سكان هذه المنطقة.
ونجح دانفورث بعد زيارته الثانية إلى السودان في حمل المتصارعين على الانخراط في مفاوضات استضافتها مدينة بيركنستوك السويسرية، استمرت سبعة أيام تحت رعاية الحكومة الأميركية التي مثلها العقيد سيسل دينز والحكومة السويسرية التي مثلها السفير جوزيف بوشر. وكان التوقيع على الاتفاقية يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2001.
وكانت أهم نقاط الاتفاقية وقف إطلاق النار بمراقبة دولية لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد، وحددت منطقة جبال النوبة بأنها كل جنوب كردفان ومحافظة لقاوة بولاية غرب كردفان. وتم تعيين هيئة عسكرية مشتركة ومراقبين دوليين للعمل معا على ضمان التزام أطراف القتال بوقف النار.
وهكذا دخل السودان العام الجديد 2002، وقد صمتت أصوات السلاح في منطقة جبال النوبة التي تشبه مناطق جنوب السودان من حيث كونها خضعت أيضا لقانون المناطق المقفولة الذي وضعه الاستعمار البريطاني. وذلك فضلا عن كونها تعيش التهميش نفسه الذي يلقاه جنوب السودان.
تقرير دانفورث
”
تقرير دانفورث أكد أن للولايات المتحدة مصالح إستراتيجية واقتصادية حيوية في السودان بما يتطلب وقف الحرب، ولكنه أكد أيضا أن تقسيم السودان بفصل الجنوب حل غير واقعي لمشكلة الحرب الأهلية وأنه لن يقود إلى سلام
”
النجاح النسبي الذي تحقق في جبال النوبة أغرى المبعوث الأميركي بالاستمرار في جهوده والولوج إلى الملف الصعب في جنوب السودان، وقام في هذا الإطار بزيارة المناطق المتأثرة بالحرب، والتقى كبار القياديين في الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، كما التقى قادة دول الجوار المؤثرة في الصراع مثل كينيا وأوغندا ومصر. وأخيرا بحث المسألة السودانية مع شركاء "مبادرة الإيغاد" الأوروبيين.
وفي السادس والعشرين من أبريل/ نيسان قدم القس جون دانفورث تقريره الشهير عن الأزمة في السودان إلى الرئيس الأميركي جورج بوش، وخلص التقرير إلى القول "إنه يتعذر على أي طرف أن يكسب الحرب" في جنوب السودان، وإنه لا مناص من مسعى دولي لتحقيق تسوية لهذا الصراع.
وأكد المبعوث الأميركي في تقريره أن للولايات المتحدة مصالح إستراتيجية واقتصادية حيوية في السودان بما يتطلب وقف الحرب، زاعما أن ما يتم فيها هو إبادة للمسيحيين في الجنوب. ولكنه أكد أيضا أن تقسيم السودان بفصل الجنوب حل غير واقعي لمشكلة الحرب الأهلية، وأنه لن يقود إلى سلام، ومن الأفضل توافر آليات لضمان الحقوق السياسية والدينية والمدنية في إطار دولة موحدة.
وأبدى دانفورث وجهة نظره فيما أسماه القضايا الجوهرية، وهي البترول وتقرير المصير وقضية الدين و"الحكومة" ونظام الحكم. وقد اعتبر المبعوث الأميركي أن اكتشاف البترول في السودان وتوظيف عائداته أثرا على الحرب في الجنوب، ولذلك فإن أي حل لموضوع الحرب ينبغي أن يتناول قضية البترول والتوزيع العادل لهذه الثروة.
وفي موضوع تقرير المصير اعتبر دانفورث أن سكان الجنوب ظلوا يعانون من سوء المعاملة من الحكومات في الشمال، بما في ذلك التمييز العنصري وعدم التسامح الديني والحرمان من الموارد القومية. ورغم ذلك رأى أن الأجدى للجنوبيين هو أن يظل السودان موحدا "مع التأكيد على إزالة هذه المظالم بضمانات دولية".
وحول موضوع الدين يقول دانفورث إن ضمانات الحرية الدينية يجب أن تكون داخلية وخارجية، الأولى تتحقق -حسب قوله- بوجود عدالة في ممارسة الحرية الدينية "والتي ربما لا تكون واقعية في المدى القصير"، أما الخارجية فتعني الرقابة الدولية لحرية الأديان "على نظام العصا والجزرة" لفرض الحقوق الدينية.
وفي شأن موضوع الحكم يرى دانفورث أن صياغة اتفاق سلام شامل، يضمن الحريتين الدينية والثقافية والتوزيع العادل للواردات النفطية ويحدد الوظائف الأخرى للحكم، وهو أمر يتطلب تفكيرا متأنيا، ويجب أن يأخذ في الاعتبار تقاسم السلطات بين الحكومة المركزية والحكومات الإقليمية.
توطئة لمفاوضات ماشاكوس
”
المبعوث الأميركي عرض أربعة مقترحات تختبر مدى التزام طرفي الصراع، وتركز هذه المقترحات على تطبيق وقف إطلاق النار وإرساء فترة أيام من الهدوء ووضع حد للهجمات على المدنيين وإلغاء ما أسماه ظاهرة ممارسة الرق
”
حرص المبعوث الأميركي على التأكيد مرارا على أن على الولايات المتحدة ألا تطرح مبادرتها الخاصة بشأن السلام في السودان، بل يجب أن تدعم وتعزز المبادرات الراهنة. ويقصد تحديدا المبادرة المشتركة المصرية الليبية ومبادرة الإيغاد، ولكنه تبنى عمليا المبادرة الثانية.
وبعد التشاور مع أطراف الصراع والدول المجاورة المعنية وشركاء الإيغاد الأوروبيين، طرح دانفورث على الفرقاء السودانيين أربعة مقترحات تختبر مدى التزام الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. وتركز هذه المقترحات على تطبيق وقف إطلاق النار، وإرساء فترة أيام من الهدوء لإتاحة إيصال معونات إنسانية إلى المناطق المتضررة من الحرب، ووضع حد للهجمات على المدنيين، وإلغاء ما أسماه ظاهرة "ممارسة الرق".
وأثناء قمة دول الإيغاد "هيئة التنمية المشتركة بين الحكومات" بالخرطوم في مارس/ آذار 2002، حصل الرئيس الكيني دانيال آراب موي على تفويض معزز من رؤساء القمة للشروع في تنفيذ مبادرة السلام التي طرحتها الإيغاد، وعين رئيس أركان الجيش الكيني الجنرال لازروس سومبايو ليكون المبعوث الكيني إلى عملية السلام السودانية.
بروتوكول ماشاكوس
وفد الحكومة السودانية في مفاوضات ماشاكوس
بدأت مفاوضات السلام السودانية بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان في ضاحية ماشاكوس بالقرب من العاصمة الكينية نيروبي في 17 يونيو/ حزيران 2002. ودخل الطرفان في البداية في حلقة مفرغة من المناقشات، مما دفع الإدارة الأميركية بالتعاون مع حكومة النرويج إلى إعداد مشروع اتفاق مكتوب قدم إلى طرفي الصراع في الثلاثين من يونيو/ حزيران. وأرفقت الولايات المتحدة نص الاتفاق بتهديدات للطرفين تحملهما مسؤوليات وتبعات رفضهما التوقيع عليه.
وبعد 33 يوما من التفاوض توصل وفدا الحكومة والحركة الشعبية إلى "بروتوكول ماشاكوس" الذي يعتبر اختراقا في أزمة السلام في السودان، وأول اتفاق من نوعه يضع مبادئ عامة ومحددة للتفاوض عليها مستقبلا بشأن الجنوب.
نص الاتفاق في خطوطه العريضة على أن وحدة السودان القائمة على الحكم الديمقراطي والمساواة والاحترام والعدالة لجميع سكان السودان هي أولوية للطرفين، وأن شعب جنوب السودان له حق السيطرة وحكم شؤونه في منطقته والمشاركة بمساواة في الحكومة القومية، ولجنوب السودان حق تقرير المصير من خلال استفتاء لتحديد وضعه المستقبلي بعد انتهاء فترة انتقالية.
كما نص الاتفاق على أن تولي المناصب العامة ومن بينها الرئاسة والتمتع بكل الحقوق والواجبات، يقوم على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو المعتقدات أو العادات، وكذلك على التوزيع المتساوي للموارد وتقاسم الثروة بين الولايات والأقاليم.
ويشتمل الاتفاق على فترتين، إحداهما تمهيدية تستمر ستة أشهر يتم خلالها وضع دستور للبلاد وإقامة آلية لتنفيذ ومراقبة اتفاق السلام. والثانية انتقالية تمتد إلى ست سنوات يجري في نهايتها استفتاء تقرير المصير.
تنازلات الطرفين
اثنان من ممثلي شركاء الإيغاد يستقبلان وفد الحركة الشعبية لتحرير السودان المشارك في مفاوضات ماشاكوس
جاء توقيع الاتفاق مفاجئا وفي اللحظة الأخيرة، وقد أكد مفاوضون من الطرفين أن المفاوضات كانت تسير في طريق الفشل، ولكنها أنجزت هذا الاتفاق في اليوم الأخير بتنازلات من الجانبين، يذكر منها التالي:
تنازلات الحكومة
- القبول بإلغاء دستور عام 1998 وإنشاء دستور جديد.
- الاتفاق على أن الشريعة "هي أحد مصادر التشريع" في حين أنها كانت في دستور 1998 "هي مصدر التشريع".
- القبول بفكرة النظام الحالي بالدستور الذي يختاره، وقبلت الخرطوم بعقد مؤتمر دستوري كانت ترفضه في السابق.
تنازلات الحركة الشعبية
- القبول بمهلة 6 سنوات يبدأ بعدها الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، بعدما كانت الحركة تطالب بالاستفتاء بعد أربع سنوات.
- الاكتفاء بتقرير مصير الجنوب فقط وليس مناطق أخرى في الشمال مثل منطقة النيل الأزرق وجبال النوبة وأبيي (منطقة في أواسط السودان).
تحفظات الأطراف الأخرى
تباينت ردود الفعل على بروتوكول ماشاكوس بين مرحب ومتحفظ، فشركاء زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق في التجمع الوطني الديمقراطي المعارض يعتبرون أن الاتفاق جزئي وغير مكتمل، لأنه "تخطى قوى رئيسية وأحزابا كبيرة ومؤثرة في الخارطة السودانية".
أما حزب المؤتمر الشعبي الذي يقوده الزعيم الإسلامي الدكتور حسن الترابي فقد انصبت تحفظاته على قضية فصل الدين عن الدولة، وأحكام الشريعة الإسلامية المنصوص عليها في دستور 1998 الذي يعتبر ملغى بموجب اتفاق ماشاكوس كما ذكر سابقا.
أما مصر فقد اعتبرت أن بند حق تقرير المصير الوارد في البروتوكول سيؤدي إلى انفصال جنوب السودان وهو ما تعتبره مساسا بأمنها القومي، كما تعتقد -ضمن تحفظات أخرى- أن هذه الخطوة ستشجع مناطق أخرى في شرقي السودان وجبال النوبة وأبيي على الانفصال وتكوين دويلات مستقلة أيضا، مما قد يؤدي إلى تقسيم جديد لمياه نهر النيل.
قانون سلام السودان
وقبل طي ملف جنوب السودان في عام 2002، لا بد من الإشارة إلى ما يعرف بقانون سلام السودان الذي وقعه الرئيس الأميركي جورج بوش في أكتوبر/ تشرين الأول. وينص القانون على فرض عقوبات أميركية على السودان إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام، يستند إلى بروتوكول ماشاكوس في غضون ستة أشهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق.
واستخدم بوش في بيانه بعد التوقيع على القانون عبارات شديدة، قال فيها إن هذا القانون وضع لمخاطبة "الشرور التي أوقعتها الحكومة السودانية على شعبها، بما في ذلك المعاناة واستخدام الغذاء سلاحا في الحرب وممارسة الرق". وإنه وضع أيضا للضغط على الأطراف المعنية خاصة الخرطوم لإكمال "حسن النية" في المفاوضات من أجل إنهاء الحرب.
ومن بين نصوص القانون خفض العلاقات الأميركية مع السودان والتقدم بطلب إلى الأمم المتحدة بحظر السلاح على السودان، والسعي لمنع الحكومة السودانية من استخدام عائدات النفط. وأعقب صدور القانون قرار بتجميد أصول 12 مؤسسة وطنية سودانية.
وقد رفض المجلس الوطني السوداني (البرلمان) قانون سلام السودان، واعتبره قانونا متحيزا وينطوي على تحريض فاضح للحركة الشعبية لتحرير السودان. واستنكر المجلس ما أسماها المبررات التي ساقتها واشنطن "للتدخل" في الشؤون الداخلية السودانية